468x60 Ads

This is an example of a HTML caption with a link.

اللفظ والمعني في النقد العربي القديم

مختصرات نقدية
اللفظ والمعني في النقد العربي القديم 

عالج النقد القديم تحت هذا العنوان مباحث كثيرة متنوعة ومتداخلة تتعلق ببنية النص الشعري وجمالياته ، متناولاً كلاً من اللفظ والمعنى منفردين ومجتمعين من حيث دورهما في التركيب الفني للنص الشعري . و لم يؤخذ في الاعتبار في ذلك التناول الالتحام الحتمي و التفاعل الجمالي بينهما داخل النص الأدبي ، وحتى في حالة اجتماعهما يعالج ذلك الاجتماع على أنه تركيب جسمين منفصلين يتم استحضار كل منهما من عالمه المستقل . وبذلك يبقى الانفصال بين اللفظ والمعنى حاضراً حتى في حال اجتماعهما الشكلي .
ويمكننا ملاحظة تأصل الانفصال بين اللفظ والمعنى في النقد العربي القديم حين نطالع تلك التقسيمات المنطقية لدرجات الجمال في النصوص الشعرية على أساس اللفظ والمعنى . ولم يكن ابن قتيبة الوحيد في تقسيمه المعروف ، إلا انه مثال مبكر واضح على عمق فكرة الانفصال بين اللفظ والمعنى في النقد العربي القديم. " ومن الواضح أن هذا التقسيم تقريري صارم ، يقدم اللفظ و المعنى مفصولين احدهما عن الآخر معيارا ًنقدياً للشعر " ، و قد تناولت الدراسات الحديثة فكرة انفصال المعنى عن اللفظ في النقد القديم ، فمن الدارسين من حاول نفيها أو تحويرها عند دراسته لبعض النقاد ، ومن الدارسين من أكد تلك الفكرة و وضّح صورها .
على أننا نلاحظ أن الذين حاولوا نفي هذه الظاهرة انطلقوا من معالجات جزئية انتقائية أثناء تناولهم لناقد معين ، ونذكر مثالاً على ذلك رأي الدكتور عبدالسلام عبدالعال في معرض حديثه عن القضية عند ابن طباطبا ، فهو يناقش تناول ابن طباطبا للعلاقة بين اللفظ و المعنى في عيار الشعر ، فينتهي إلى أن " ابن طباطبا قد خطا بحيوية العلاقة بين اللفظ و المعنى خطوة كبيرة ، أساسها التآزر الحيوي بين العنصرين ، بحيث لا يمكن الفصل بينهما ، و بحيث يتأثر كل منهما بصاحبه قوةً و ضعفاً، دون تمييز لأحدهما عن الآخر " ، و هو يبني هذا الرأي على إشارة ان طباطبا إلى تشبيه الحكماء للكلام في لفظه و معناه بالجسد و الروح ، و استعماله ذلك التشبيه في وصف تلاؤم اللفظ مع المعنى . ، و نذكر أيضا الدكتور أحمد مطلوب في تناوله الجانبي لابن رشيق في معرض دراسته لعبد القاهر الجرجاني ، ؛حيث يعلق على كلام ابن رشيق عن علاقة اللفظ و المعنى بأنه ربط بين ركني الكلام : اللفظ و المعنى ، و جعلهما العمدة حسنه و جودته . 
أما الدارسين الذين أكدوا حضور ظاهرة ثنائية اللفظ و المعنى في النقد القديم ، فيلاحظ عليهم النظرة الشمولية للظاهرة ، خاصةً أن تناولهم لها يأتي في معرض دراسات عامة تعرض للنقد القديم في ظواهره العامة ، بمقارنة وصفية لعدد من النقاد و ليس ناقد معين لتأريخ مذهبه النقدي . و من هؤلاء الدكتور مصطفى ناصف في دراسته الشاملة لنظرية المعنى في النقد القديم " هم – أي القدماء – يقولون : إن اللفظ الحسن كالثوب الحسن ، و اللفظ القبيح كالثوب القبيح ، و يقولون : إن الألفاظ كسوة للمعاني ، الألفاظ تحسّن المعاني كما يحسّن الثوب لابسه ، في كل هذه الكلمات و ما يشبهها تعتبر اللغة مجرد كساء نغطي به أفكارنا . أفكارنا موجودة و اللغة غلاف عليها ، و الغلاف معروف منفصل عما يحتويه " . وللناقدين: زكي عشماوي و العماري رأي قريب من ذلك في تناول كل منهما للقضية ، و كما لاحظنا جاءت آراء هؤلاء الدارسين الثلاثة في معرض دراسات شمولية تتناول قضايا النقد لا شخصيات النقاد . 
وهكذا لم تتناول قضية اللفظ والمعنى (( العمل الأدبي كله بحيث تتطور إلى ما يسمى الشكل و المضمون ، ولاهي استطاعت أن تقترب مما قد يسمى ( الصلة الداخلية ) بين هذين ، ولعلها كانت ذات أثر بعيد في صرف النقد عن تبين وحدة الأثر الفني في منشئه الكلي)) . 
وبسبب هذا الانفصال جاء تناول القدماء للقيمة الجمالية للفظ و المعنى مضطرباً ، فهم يضعون مقاييس للفظ و مقاييس للمعنى ، و في الوقت ذاته يمزجون بين تلك المقاييس و يحاولون إخضاعها لتصنيف علمي صارم ، و لعل ذلك يعود في أساسه إلى انصهار النقد في جملة المنهجية العلمية التي اتسم بها العصر ، وذلك حين يتطلب النقاد الموضوعية في دراسة الشعر دون أن ينتبهوا إلى أن الشعر فن قولي لا يخضع لمقاييس التصنيف العلمي . 
أخذ موقف القدماء من الألفاظ طابعه من اعتبار اللفظ عنصراً أساسيا من عناصر النص الشعري ، وتبعاً لما أثاره ظهور الشعر المحدث من خصومة بين تياري الشعر القديم و المحدث كما ذكرنا سابقاً أخذ اللفظ مكانه من التقنين والتقييد عبر ( عمود الشعر ) في مراحل تبلوره . 
فقد هجرت ألفاظ الشعر المحدث سمات البداوة من الجزالة والخشونة ثم أدخلت المصطلحات العلمية وعبرت عن المعاني العقلية ، فخرجت عن نمط الألفاظ التي كان موضوعها النسيب والفخر في منابعها البدوية ، واصطدمت بمألوف الذوق في ألفاظ الشعر القديم من قوة موسيقاها الداخلية وجزالتها ، بحيث استدعى الأمر مواجهة نقدية قوية لذلك الاتجاه في الالفاظ . وهذا ابن رشيق يقرر أن " للشعراء ألفاظاً معروفة وأمثلة مألوفة لا ينبغي للشاعر أن يعدوها ، ولا أن يستعمل غيرها ، كما أن الكتاب اصطلحوا على ألفاظ بأعينها يسمونها الكتابية ، لا يتجاوزونها إلى سواها ، والفلسفة وجر الأخبار باب غير الشعر ، فإن وقع فيه منها شئ فبقدر ، وإنما الشعر ما أطرب وهز النفوس وحرك الطباع " . والمتتبع لما قاله القدماء بهذا الخصوص " يخرج بيقين مفاده أنهم يؤمنون بوجود لغة خاصة للشعر قد لا تستعمل في غيره من الفنون " .
لكن ذلك التحدي الذي وضع فيه التيار النقدي المحافظ على تقاليد الشعر القديم كان دافعاً للبحث في قضايا جديدة يعرضها الواقع الجديد الذي أثاره الشعر المحدث ، فراجع النقاد مسألة المعاصرة من حيث علاقة الشعر بجمهوره المعاصر،حين أصبح المتلقي عنصراً مهماً من عناصر العملية الشعرية ، فباتت الصلاحية المطلقة للجزالة والخشونة اللفظية أمراً قابلاً للمناقشة وفق علاقة الشعر بالمتلقي المعاصر وبالمقابل كانت الاصطلاحات العلمية والمعاني العقلية التي حملت بها ألفاظ الشعر المحدث مثيرة لقضية أخرى هي الوظيفة الفنية للشعر . 
وهكذا لم تعد الصفات التي رسخها عمود الشعر للفظ وهي الجزالة والاستقامة مطلقة ، بل أصبح هناك طرفان متناقضان للألفاظ كلاهما مرفوض ، وهما ( الوعورة والوحشية والغرابة ) يقابلها ( الركاكة والضعف ) ، ويقع بين الطرفين درجات متفاوتة يتحدد ضمنها اللفظ المقبول ، وهكذا اتسعت الذائقة النقدية لتتقبل العذوبة والرقة إلى جانب الجزالة والقوة في الألفاظ ، ويعرف ابن رشيق حدود اللفظ المقبول في قوله : " الوحشي من الكلام ما نفرعنه السمع والمتكلف ، وما بعد عن الطبع . والركيك هو ما ضعفت بنيته وقلت فائدته ، واشتقاقه من الركة وهي المطر الضعيف ... وإذا كانت اللفظة خشنة مستغربة لا يعلهما إلا العالم المبرز والأعرابي القح فتلك وحشيته " . و يقول العسكري " الشعر كلام منسوج و لفظ منظوم ، و أحسنه ما تلاءم نسجه و لم يسخف ، و حسن لفظه و لم يهجن . و لم يستعمل فيه الغليظ من الكلام ، فيكون جلفاً بغيضاً ، ولا السوقي من الألفاظ فيكون مهلهلاً دوناً " .
و نلفت النظر هنا إلى تنبه بعض النقاد إلى دور التلقي و ما يتبعه من ظروف العصر و البيئة في مقاييس اللفظ و المعنى ، و من ذلك وصف القاضي الجرجاني لمقاييس الأسلوب الشعري ، " فإذا كانت فخامة الأساليب الشعرية مطلباً جمالياً للذائقة الجمالية في الجاهلية و ما تابعها ، فإن رقة الأساليب و دماثتها غدت مطلب الذائقة الجمالية عند سكان المدن و الحواضر في العصر العباسي .
ولم يكتف النقد القديم بمعالجة اللفظ في صورة مفردات كما سبق ، بل نظر القدماء إلى التركيب اللفظي على الرغم من بقاء الانفصال بين هذا التركيب ومحتواه من المعاني قائماً ، حيث كان اهتمامهم بالتركيب اللفظي منصباً على مستويين هما :. مستوى الصحة والاستقامة على القوانين اللغوية المعروفة ، ومستوى التآلف والانسجام بين عناصر التركيب . ولم تخرج مقاييس التركيب اللفظي المثالي عن مقاييس اللفظ المفرد من حيث وصفه بالقوة و الجزالة و الفصاحة . وقد عبر النقاد عن التركيب اللفظي بمصطلحات مثل ( النظم )* و ( المبنى )* ، و نذكر مثالاً على ذلك حازم القرطاجنى * ، الذي وضع للمباني قسماً في كتابه.
( منهاج البلغاء ) مستقلاً عن المعاني " حيث يشكل كلام حازم على المباني القسم الثاني من كتابه ( منهاج البلغاء ) الذي خصص القسم الأول منه للمعاني ، وهو في ذلك كغيره مـــن النقاد ، ويتكلم عن المبنى في معزل عن المعنى ، باستثناء الإرشادات إلى ضرورة تناسب عناصر المبنى مع المقاصد أو الأغراض التي تمت إلى المعاني بصلة ما ، نقصد بذلك إلى القول إن النقاد بعامة قد سوغوا لأنفسهم الكلام على مبنى منفصل عن أي معنى ، وذلك لاعتقادهم بوجود عناصر للشعر يتمتع كل منها باستقلاله عن الآخر " . 
أما إذا انتقلنا للمعنى في النقد القديم ، فقد نظر النقاد القدماء إلى المعنى " على أنه الماهية أي ما هو متعارف عليه ، ما هو موجود في معزل عن الإحساس الجمالي أو الذوق " . حيث نجد أن ابن قتيبة في مفهومه الشعري للمعنى " لا يذه ببعيداً عن حدود الخبر و الفكرة و المعلومة أياً كانت هويتها ، و الحكمة و الموعظة و القيمة الخلقية ، و المعنى المشترك ذي المنحى الاجتماعي " ، و لا يبعد عنه ابن طباطبا حين يصفبعض الأشعار بأنها" أنيقة الألفاظ حكيمة المعاني " وهذا ما يفسر تناول النقاد للمعنى على أنه عنصر من عدة عناصر منفصلة تكون النص الشعري ، فهذا قدامة يضع للمعنى نعوتاً على أنه عنصر من عناصر الشعر قسيماً للفظ و الوزن و القافية ، حيث يقول في المعنى " المعاني كلها معروضة للشاعر ، وله أن يتكلم منها فيما أحب وآثرمن غير أن يحظر عليه معنى يروم الكلام فيه إذ كانت المعاني للشعر بمنزلة المادة الموضوعة ، والشعر فيها كالصورة ، كما يوجد في كل صناعة من أن لابد فيها من شئ موضوع يقبل تأثير الصور منها ، مثل الخشب للنجارة والفضة للصياغة " . 
وبهذا الوصف تعرض المعنى للبحث في قيمته الجمالية عند القدماء ، حيث المعاني بهذا الوصف عامة من حيث أنها تمثل الموروث الأخلاقي العام للناس ، " فهي في متناول الجميع ، أوأنها كما يقول الجاحظ ( مطروحة في الطريق ) . لها قيمة المأثور المركوز في الطباع " ، وهكذا قوبل الابتكار في المعاني في صورتها العامة بالرفض والاستنكار لعلاقتها بالموروث القيمى الأخلاقي . حيث اتصف المعنى في ( عمود الشعر ) بالشرف والصحة وكان عياره ( الفهم الثاقب والعقل الصحيح ) .
وكان لهذا التصور الأخلاقي أثره في ربط الشعر بالواقع ، واعتباره تمثيلاً له ، حيث امتدًت هذه المعالجة الواقعية لتشمل مختلف عناصر العمل الإبداعي الشعري . وعلى هذا الأساس جاء تناول النقاد القدماء للمعنى المبتكر في الشعر ، ويتمثل ذلك الابتكار في تصرف الشاعر في مادة المعنى و فكرته التي هي جزء من الواقع ليبتكر معناه الخاص باستخدام الوسائل البيانية بحيث يخرج صورة جديدة للواقع . وفي هذا السياق جاء تناولهم للاستعارة والمجاز والتشبيه ، ولذلك كان التفاضل بين الشعراء في التوضيح والإبانة عن الغرض الذي ينتمي إلى المعــاني العامة ، فكان من نصيب الاستعارة و بقية الأساليب البيانية التي يوظفها الشاعر لصياغة معناه الخاص في عمود الشعر وضوح الدلالة والتقريب . فإذا كان المعنى العام هو مادة أولية تستمد عناصرها من الواقع ، فإن المعنى الخاص ينحصر دوره في استخدام وسائل البيان لتوصيل هذا الواقع المرتبط بالقيم الموروثة ، " فقد نظر إلى المعنى على أنه إخراج مستمر لقيم مستقرة في العقول ، قيم كالشرف والنسب والبطولة والشجاعة ، والكرم والوفاء والثأر وغيرها ، والمعاني هي إعادة إنتاج لها عبر صياغات مختلفة في تزيينيتها " وعليه فان وسائل التخييل البيانية معيارها الجمالي هو محاكاة الواقع وتمثيله بأحسن الطرق للتأثير على المتلقي . و إن أخطر شئ في موقف معظم النقاد القدماء هو تطلبهم في المعنى الوضوح و الفائدة و الحكمة و الاتفاق التام مع القيم و المعايير السائدة . 
وقد وجدت مداخل مختلفة لتناول الابتكار في المعاني ، فنوقش الابتكار في ضوء مفهوم الطبع و الصنعة ، وكان ( الطبع ) في تصور معظم النقاد القدماء هو اعتماد الشاعر في إنتاج شعره على المألوف باعتباره هو المركوز في الطباع من الموروث الشعري فـ"ليس الشعر عند أهل العلم به إلا : حسن التأتي ، و قرب المأخذ ، ووضع الألفاظ في مواضعها ، و أن يورد المعنى باللفظ المعتاد المستعمل في مثله " ، ولذلك ارتبط رفض الابتكار في المعنى بالطبع كمعيار للشعر " فالطبع هو العقلية الشعرية التي يرثها الشاعر، ومن ثم يحسن استخدامها بإعادة ترتيب الالفاظ ، وقد كانت الصنعة لدى كثير من النقاد اكثر من مجرد استعمال الألفاظ الغريبة ، وعدم وضوح الأغراض الشعرية وإنما تعدت ذلك إلى كل إمكانية في الكشف ، وافتتاح مناطق شعرية جديدة " .
كما نوقش الابتكار من جهة أثره على المتلقي من منظور جمالي جاء ليوطد المنظور الأخلاقي السابق ، وعلى هذا الأساس سمح القدماء بدرجة من توليد المعنى تضمن الفعالية الجمالية من حيث الاحتفاظ بوعي القارئ لتنشيط تفاعله مع النص ، فتناولوا الطرافة المعنوية ، وإظهار المألوف في صورة الجديد بوسائل بيانية ، لكنهم تمسكوا بالحفاظ على القديم حيث تكون الطرافة حيلة أسلوبية تضاف إلى القديم لإيهام المتلقي بطرافة غير حقيقية ، ومن ذلك موقف ابن طباطبا في عيار الشعر من توليد المعاني عند المحدثين ، و كذلك رؤية القاضي الجرجاني في الوساطة لموقف الشاعر المحدث من المعاني ، و قريباً منهما ابن رشيق القيرواني في العمدة .
وهكذا سيطر التصور الأخلاقي الذي يربط النص بالواقع على تناول النقاد للمعنى ، وذلك حين وقفوا من ( توليد المعاني ) وابتكارها موقفا حذراً حتى حين وظفوهما لخدمة التصور الأخلاقي للمعنى . وكان لهذا الموقف جذوره في قضية القديم والمحدث ، حيث المعيار الأخلاقي الذي تحدثنا عنه سابقاً وصلته بالمتلقي هو الباعث الأقوى خلف هذا الموقف ، ومثلما مثل القديم مألوف الناس ، وارتبط المألوف بالقيم الموروثة ، ارتبط الشعر المحدث بالخروج على المألوف وأصبح الابتكار في المعاني نظيراً لرفض القديم بما يمثله من قيم مقدسة " فقد كان النقد في معظمه يروج للاعتماد على حساسية شعرية لا ترتبط فقط بخصوصية اللغة عند العرب ، بل بخصوصية وجودهم وأفكارهم " .
وكما رأينا فقد وجد النقاد القدماء أنفسهم في موقف مضطرب عند الحديث عن المعنى منفصلاً عن اللفظ ، وعند محاولة وضع معايير مستقلة لكل منهما ، حيث لايمكن نسبة أي قيمة جمالية للمعنى العام الذي مثل عند القدماء قيم مجردة لاتفاوت فيها بين الشعراء . وأما المعنى الخاص الذي نوقش في مستواه التوليد و الابتكار فلا يمكن إغفال دور اللفظ فيه ، وبسبب هذه العلاقة الحتمية بين اللفظ والمعنى اضطرب النقاد في تحديد الأفضلية في قيمة الإبداع الشعري الجمالية لأحدهما ، و من أمثلة ذلك الاضطراب ما وصفه الدكتور أحمد مخلوف من أن " ابن رشيق تبلغ به الحيرة و التردد بين اللفظ و المعنى حداً يروي لنا معه للعباس بن حسن العلوي في صفة بليغ قوله ( معانيه قالب لألفاظه ...) ثم خالف في موضع آخر فقال ( ألفاظه قوالب لمعانيه ) " ، و أما أبو هلال العسكري ففي حين يرى أن مدار البلاغة على تحسين اللفظ ، نراه يقدم الإصابة في المعنى على تحسين اللفظ . و قبلهما نرى ابن طباطبا يحدد صفات الجودة في الشعر بقبول الفهم لها " و الفهم يأنس من الكلام بالعدل الصواب الحق ، و الجائز المعروف المألوف " ، ثم هو بعد ذلك بقليل ينسب جودة المعاني إلى ما فيها من استفزاز السامع ، و ذلك بـ" التعريض الخفي الذي يكون بخفائه أبلغ في معناه من التصريح الظاهر الذي لا ستر دونه " .
وقد سببت العلاقة المضطربة بين اللفظ والمعنى في ذهن النقاد تلك المواقف المضطربة من دور كل منهما في البنية الفنية للنص الشعري . فلم يتوصلوا للعلاقة التفاعلية بينهما بشكل يقضي على مظاهر الاضطراب السابقة ، حتى جاء عبد القاهر الجرجانى بنظريتـــــــه في ( النظم ) .
لقد نظر عبد القاهر الجرجاني إلى العلاقة بين اللفظ والمعنى نظرة عميقة ، أغنت تصوره لكثير من قضايا الشعر ، وبواسطتها استطاع تنظيم كثير من المفاهيم النقدية قبله ، وقد أقام عبد القاهر بحثه في تلك العلاقة على أساس إنكار الفصل بين اللفظ والمعنى ، واثبات استحالة وجود أحدهما بدون الأخر ، لاسيما في التركيب الشعري . 
و قدوضح موقفه من اضطراب النقاد في هذا المجال قبله ، حين قال في اللفظ : " أنهم لما جهلوا شأن الصور ، وضعوا لأنفسهم أساسا ، وبنوا على قاعدة ، فقالوا : إنه ليس إلا المعنى واللفظ ولا ثالث لهما ، وأنه إذا كان كذلك وجب إذا كان لأحد الكلامين فضيلة لاتكون للاخر ثم كان الغرض من أحدهما هو الغرض من صاحبه أن يكون مرجع تلك الفضيلة إلى اللفظ خاصة ، وأن لا يكون لها مرجع إلى المعنى من حيث إن ذلك زعموا يؤدي إلى التناقض ، وأن يكون معناهما متغايراً وغير متغاير معاً " و بذلك يرفض عبد القاهر نسبة القيمة الجمالية الشعرية إلى اللفظ والتصغير من شأن المعنى . 
إلا أنه رفض أيضا أن تكون القيمة الجمالية في الشعر راجعة إلى المعنى وحده " فسبيل المعاني أن ترى الواحد منها غفلاً ساذجاً عامياً موجوداً في كلام الناس كلهم ، ثم تراه نفسه وقد عمد إليه البصير بشأن البلاغة وإحداث الصور في المعاني ، فصنع فيه ما يصنع الحاذق حتى يعرب في الصنعة ، ويدق في العمل ويبدع في الصياغة " .
وبذلك يخرج لنا مفهوم الصياغة الذي يمتزج فيه اللفظ والمعنى ليشكلا وحدة جمالية لا يمكن فصل عناصرها ، وقد عبر عبدالقاهر عن هذا الامتزاج بمصطلح ( النظم )* الذي وظف فيه القواعد النحوية الجامدة ، وأدخلها كمعيار مرن للقيمة الجمالية في التركيب الشعري . فمسؤولية النظم إذاً خدمة المعنى الجمالي عن طريق توظيف القواعد النحوية ، فالكلم " تترتب في النطق بسبب ترتيب معانيها في النفس ، وإنها لو خلت من معانيها حتى تتجرد أصواتا وأصداء حروف لما وقع في ضمير ولاهجس في خاطر أن يجب فيها ترتيب ونظم ، وأن يجعل لها أمكنة ومنازل ، وان يجب النطق بهذه قبل النطق بتلك" 
وعن طريق الربط الوثيق بين اللفظ والمعنى في (النظم) وضع عبد القاهر تصورات مختلفة للأساليب البيانية باعتبارها وسائل معنوية تضفي القيمة الجمالية للنص الشعري ، متحرراً من القيود المعيارية التي وضعت فيها تلك الأساليب البيانية لدى النقاد قبل عبد القاهر و بعده ، " فالبلاغة عند عبد القاهر لاتهدف إلى تحديد القاعدة التي تهتم بالناحية التنظيرية للمسميات كالتشبيه والاستعارة والمجاز والتمثيل وغيرها بتعريفتها وأقسامها ، بقدر ما يهدف مجالها إلى تأسيس الفكرة الجمالية للصور الفنية التي يحققها النظم كتركيب لغوي " .
و عبدالقاهر في مفهومه للنظم يقدم للنقد تصوراً عميقاً لمفهوم الصورة بكل ما تعنيه من الصياغة الفنية و الإيحاءات الجمالية ، و ما تتطلبه من انصهار تام لعناصر الشعرية من معنى و لفظ و صياغة . و ضمن هذه الفكرة عدل عبد القاهر من معايير الصورة كتوظيف خاص للمعنى يوظف فيه الشاعر الأساليب البيانية في عمود الشعر ، تلك التي كانت تحدد بالوضوح في التعبير عن الغرض ، وبالتناسب والمحافظة على العلاقات الواقعية بين أجزائها ، ثم بالمحافظة على النماذج الشعرية الموروثة ، حيث أصبح المعيار في التشبيه و الاستعارة عند عبد القاهر مقدار البعد وخفاء العلاقات داخل أجزاء الصورة لتي يؤديانها ، و ذلك على أساس تعديل دور المتلقي في العملية الشعرية ، بحيث يتحرر المعنى عند عبد القاهر من قيود التصور الأخلاقي ، فخفاء العلاقات والتباعد بين أطراف الصورة كفيل بإحداث التعجيب المطلوب لإثارة انتباه المتلقي ، وإحداث نوع من المتعة ناشئ عن المجهود الذي يبذله المتلقي للوصول إلى المعنى ، فالتعجيب عند عبد القاهر غير محدود بحدود المعقول أو النماذج الموروثة كما كانت الطرافة عند النقاد قبله .
وبفضل فهمه الخاص للعلاقة بين اللفظ والمعنى استطاع عبد القاهر أن ينظم المفاهيم المضطربة عن ( اللفظ ) و (المعنى ) ووضع مفاهيم منظمة لكل منهما ، تنتظم على أساسها العلاقة بينهما عبر ( النظم ) ، وتأخذ صوراً ومراتب مختلفة ، فيها تظهر القيمة الجمالية للشعر ، والفرادة الإبداعية للشاعر، فهناك المعنى ، وهناك معنى المعنى* . " فالمعنى هو المفهوم من ظاهر اللفظ ، والذي تصل إليه بغير واسطة ، ومعنى المعنى هو أن تعقل من اللفظ معنى ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى أخر " . وهكذا فرق عبد القاهر بين أصل المعنى أو الغرض العام ، وبين صورة المعنى التي يؤديها النظم باستخدام الأساليب البيانية المختلفة ، " فالمعاني الإضافية عنده هي أساس جمال الكلام ، و إليها ترجع الفضيلة و المزية . و هذه الفكرة لم يلتفت إليها أحد من نقاد العرب السابقين ، و قد تحدث عنها المعاصرون في الغرب و سموها أيضاً ( معنى المعنى ) " .
إقرأ المزيد

السرقات الشعرية

"السرقات الشعرية"
تعريفها : 
لغة:هي أمر مستكره وممقوت ولفظ بغيظ تزدريه النفوس وتكرهه الاسماع وهي في اللغة اسم من (سرق منه الشيء يسرق سرقا واسترق . جاء مستترا الى حرز فأخذ مالغيره) والسرقة أخذ ماله خفية
اصطلاحا: استعير المعني الاصطلاحي من المعنى اللغوي للكلمة ون كان من اختلاف فهو في ماهية المسروق فقط ....اذن فهي (الأخذ من كلام الغير وهو أخذ بعض المعنى أو بعض اللفظ سواء كان أخذ اللفظ بأسره والمعنى بأسره )

السرقات الشعرية باب كبير يزعم ابن رشيق ألا أحد يقدر أن يدعي السلامة منه، وهو مصيب إذا اعتبرنا أن كل تشابه سرقة، فمدار كلامنا حول أغراض الشعر لا نخرج عنها من وصف وهجاء ومديح ونسيب ورثاء واعتذار والمعاني في هذه الأبواب متشابهه لا يكاد شاعر يأتي بمعنى جديد في ظننا إلا وجدناه سُبق إليه سواء بلفظه أو أنه بدّل فيه ليضفي عليه خصوصية الأسلوب، هذا إلا فيما ندر، ولما كان ذلك كذلك فإنه ينبغي علينا أن ننظر في معنى السرقة ببعض من التفصيل والتصنيف، حتى نتبين السرقة الحقيقية والتشبه والاقتداء وتوارد الخواطر.
وليس صحيحا أن السرقة كلها قبيحة لكن يقبح بعضها ويحسن البعض، إلا أن لفظة السرقة تقدح في الفعل وهذا شيء آخر يدفعنا إلى تصنيفها لتبيين الجيد من الرديء، ولعل أدنى هذه التصانيف قول بعضهم: من أخذ معنى بلفظه كما هو كان سارقا، فإن غير بعض لفظه كان سالخا، فإن غير بعض المعنى ليخفيه أو قلبه عن وجهه كان ذلك دليل حذقه.
أنواع السرقات:
1. الاصطراف: وهو أن يعجب الشاعر ببيت من الشعر فيصرفه إلى نفسه، وهو نوعان
· الاجتلاب: وهو أن يجلب الشاعر بيتا من شعر غيره تمثلا به لا ادعاء تأليفه، كقول النابغة الذبياني:
وَصَهباءُ لا تُخفي القَذى وَهوَ دُونَها = تُصَفِّقُ في راووقِها حينَ تقطب
تَمَزَّزتُها والدّيكُ يدعو صباحهُ = إذا ما بَنو نَعشٍ دَنَوا فَتَصَوَّبوا
فاستلحق البيت الأخير فقال:
وَإِجانَةٍ رَيّا السُّرورِ كَأَنَّها = إذا غُمَسَت فيها الزُّجاجَةُ كَوكَبُ
تَمَزَّزتُها والدّيكُ يدعو صباحهُ = إذا ما بَنو نَعشٍ دَنَوا فَتَصَوَّبوا
وربما اجتلب الشاعر البيتين كما قال عمرو ذو الطوق:
صَدَدْتِ الْكأسَ عَنّا أمُّ عَمْروٍ = وَكَانَ الْكَأسُ مَجْرَاهَا الْيَمِينَا
وما شرُّ الثلاثة أمَّ عمرو = بصاحبِك الذي لا تَصْبَحِينا
فاستلحقهما عمرو بن كلثوم فهما في قصيدته.
· الانتحال: وهو شبيه الاجتلاب إلا ان الشاعر هنا يدعي نسبة البيت إلى نفسه كقول جرير:
إنَّ الذين غدوا بلبِّكَ غادرُوا = وشلاً بعينِكَ لا يزالُ معينَا
غيَّضنَ من عبراتهِنَّ وقلنَ لي = ماذا لقيتَ منَ الهوى ولقينَا
فإن الرواة مجمعون على أن البيتين للمعوط السعدي انتحلهما جرير، وانتحل أيضا قول طفيل الغنوي:
ولما التقى الحَيّانِ أُلقيَت العصا = ومات الهوى لمّا أُصيبت مَقاتلُهْ
وكذلك ما روي من أن عبد الله بن الزبير الشاعر، دخل على معاوية فأنشده:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تُنْصِفْ أَخَاكَ وَجَدْتَهُ = على طَرَفِ الهِجْرَانِ إنْ كانَ يَعْقِلُ
ويَرْكَبُ حَدَّ السَّيْفِ مِنْ أَنْ تَضِيمَهُ = إِذا لَمْ يَكُنْ عَنْ شَفْرَةِ السَّيْفِ مَزْمَلُ
فقال له معاوية: لَقَدْ شَعَرْتَ بَعْدِي يَا أبا بكر، ولم يفارق عبد الله بن الزبير الشاعر مجلس معاوية حتَّى دخَلَ مَعْنُ بن أوس المزني، فأنْشَدَهُ قصيدته التي يقول في مطلعها:
لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وإنِّي لأَوْجَلُ = عَلَى أيِّنَا تَعْدو المَنِيَّةُ أَوَّلُ
حتى أتمّها، وفيها البيتان اللَّذان أنشدهما "عبد الله بن الزبير". فأقبل معاوية على عبد الله وقال له: ألم تُخْبِرْني أنَّهُما لكَ؟! فقال عبد الله: المعنى لي، واللَّفْظُ له، وبَعْدُ فهو أخي من الرضاعة، وأنا أحقُّ بشِعْرِه.
2. الإغارة: وتكون من القوي على الضعيف وهي أن يقول أحد الشعراء بيتا فيعجب من هو أقوى منه شعرا فيغير عليه وينسب إليه لذياع صيته عن صاحبه كما فعل الفرزدق بجميل وقد سمعه ينشد:
تَرى الناسَ ما سِرْنا يَسِيْرُوْنَ خلفنا = وإنْ نحنُ أوْبَأْنا إلى الناس وَقَّفُوا
فقال: متى كان الملك في بني عذرة؟ إنما هو في مضر وأنا شاعرها، فغلب الفرزدق على البيت، ولم يتركه جميل ولا أسقطه من شعره.
3. الغصب: وهي أن يغصب الشاعرُ الشاعرَ بيته دون رضاه كما فعل الفرزدق بالشردل اليربوعي، وقد أنشد في محفل:
فَما بَينَ مَن لَم يُعطَ سَمعاً وطاعةً = وبَين تَميمٍ غَيرُ حَزِّ الحَلاقِمِ
فقال الفرزدق: والله لتدعنه أو لتدعن عرضك، فقال: خذه لا بارك الله لك فيه.
وقال ذو الرمة بحضرته: لقد قلت أبياتاً، إن لها لعروضاً وإن لها لمراداً ومعنى بعيداً، قال: وما قلت؟ فقال: قلت:
أحينَ أعاذت بي تميمٌ نساءهَا = وجُرّدت تجريدَ اليَمانِي من الغِمدِ
ومدت بضَبْعيَّ الرّبابُ ومالكٌ = وعمروٌ وشالت من ورائي بنو سعد
ومن آل يربوعٍ زُهَاءٌ كأنه = دُجَى الليل محمود النِّكاية والوِرد
وكنّا إذا الجبّارُ صَعَّرَ خدَّه = ضربناه فوق الأُنْثَيَيْن على الكَرْد
فقال له الفرزدق: إياك وإياها لا تعودن إليها، وأنا أحق بها منك، قال: والله لا أعود فيها ولا أنشدها أبداً إلا لك
4. المرادفة: وهي أن يهب الشاعر الشاعر أبياتا إعانة له 
ما قال جرير لذي الرمة: أنشدني ما قلت لهشام المرئي، فأنشده قصيدته:
نَبَتْ عيناكَ عن طَللٍ بحُزْوَى = عَفَتْه الريحُ وامْتُنِحَ القِطارَ
فقال: ألا أعينك؟ قال: بلى بأبي وأمي، قال: قل له:
يَعُدّ الناسبون إلى تَميم = بيوتَ المجدِ أربعةً كِبارا
يَعُدُّون الرِّباب وآلَ سَعْدٍ = وعَمْراً ثم حَنْظلةَ الخِيارا
ويَهْلِكُ بينها المَرَئيُّ لَغْواً = كما ألغيتَ في الدِّية الحُوَارا
فلقيه الفرزدق، فلما بلغ هذه قال: جيد، أعده، فأعاده، فقال: كلا والله، لقد علكهن من هو أشد لحيين منك، هذا شعر ابن المراغة.
والشاعر يستوهب البيت والبيتين والثلاثة وأكثر من ذلك، إذا كانت شبيهة بطريقته، ولا يعد ذلك عيباً؛ لأنه يقدر على عمل مثلها، ولا يجوز ذلك إلا للحاذق المبرز.
5. الاهتدام: وهو أنت يأخذ الشاعر عن الآخر بعض بيته فيجيء بالمعنى نفسه ع تغيير في اللفظ، وكأنه هدم بعض البيت كقول النجاشي:
وكنْتُ كذِي رِجْلَيْنِ رِجْلٍ صَحيحةٍ = ورِجْلٍ بها رَيْبٌ من الحَدَثان
فأخذ كثير القسم الأول واهتدم باقي البيت فجاء بالمعنى في غير اللفظ، فقال: 
وكنتُ كذي رجلينِ رجلٍ صحيحةٍ = ورجلٍ رمى فيها الزَّمانُ فشلَّتِ
6. النظر والملاحظة: فهو التحقيق في البيت لاستخلاص معنى ونسجه في بيت آخر بأسلوب خاص كقول المهلل:
أنْبَضُوا مَعْجِسَ القِسِيِّ وأبْرَقْـ = ـنا كما تُوْعِدُ الفُحولُ الفُحولا
نظر إليه زهير بقوله:
طْعُنُهُمْ ما ارْتَمَوا حتى إذا اطَّعَنُوا = ضَاَرَب حتى إذا ما ضَارَبُوا اعْتَنَقا
وأبو ذؤيب بقوله:
ضَروبٌ لِهاماتِ الرِّجالِ بِسَيفِهِ = إِذا حَنَّ نَبعٌ بَينَهُم وَشَريحُ
7. الإلمام: وهو أن يلم الشاعر بمعنى البيت فيضعه بعينه في بيت آخر من نسجه، وهو ضرب من النظر، كقول أبي شيص:
أَجِدُ المَلاَمَةَ فِي هَوَاكَ لَذِيدَةً = حُبّاً لِذِكْرِكَ فَليَلُمْنِي اللُّوَّمُ
وقول المتنبي: 
أَأُحِبُّهُ وأُحِبُّ فِيهِ مَلاَمَةً؟! = إِنَّ الْمَلاَمَةَ فِيهِ مِنْ أَعْدَائِهِ
ويعد هذا مثالا على العكس وهو النوع العاشر.
8. الاختلاس: وهو أن يختلس الشاعر عن الآخر فكرة ويستخدمها بمعناها في غرض آخر، كقول أبي نواس:
مَلِكٌ تَصَوَّرَ في القُلوبِ مِثالُهُ = فَكَأَنَّهُ لَم يَخلُ مِنهُ مَكانُ
اختلسه من قول كثير:
أُريدُ لِأَنسى ذِكرَها فَكَأَنَّما = تَمَثَّلُ لي لَيلى بِكُلِّ سَبيلِ
وقول عبد الله بن مصعب:
كَأَنَّكَ كُنتَ مُحتَكماً عَلَيهم = تُخَيَّرُ في الأُبُوَّةِ ما تَشاءُ
ويروى كأنك جئت محتكماً عليهم اختلسه من قول أبي نواس:
خلّيتَ والحسنَ تأخذهُ = تنتقى منه وتنتخِبُ
9. الموازنة: وهي أن يقول الشاعر البيت يوازن بيت غيره إلا في المعنى فيعد سرقة في الأسلوب، أكثر منه في المعنى كقول كثير:
تَقولُ مَرضنا فَما عُدتنا = وَكيفَ يَعودُ مريضٌ مَريضا
وازن في القسم الآخر قول نابغة بني تغلب:
بَخِلنا لِبُخلِكِ قَد تَعلَمينَ = وَكَيفَ يَعيبُ بخيلٌ بخيلا
10. العكس: هو أن يعكس الشاعر معنى بيت لغيره فيجعله في شعره، كقول ابن أبي قيس، ويروى لأبي حفص البصري:
ذَهَبَ الزمانُ برهط حسّان الأولى = كانَتْ مَناقبهم حديثَ الغابرِ
وبقيتُ في خَلْفٍ تحلُّ ضيوفُهُمْ = فيهمْ بمنزلهِ اللئيم الغادِرِ
سودُ الوُجوهِ لَئيمةٌ أحسابهمْ = فُطْسُ الأُنوفِ من الطرازِ الآخرِ
فوازن قول حسان بن ثابت وعكسه:
بيض الوجوهِ كريمةٌ أحسابهم = شمُّ الأنوفِ من الطِراز الأوَّلِ
وقول أبي نواس 
قَالُوا عَشِقْتَ صَغِيرَةً فَأَجَبْتَهُمْ = أَشْهَى المَطِيِّ إِلَيَّ مَا لَمْ يُرْكَبِ
كَمْ بَيْنَ حَبَّةِ لُؤْلُؤٍ مَثْقُوبَةٍ = لُبِسَتْ وَحَبَّةِ لُؤْلُؤٍ لَمْ تُثْقَبِ
عكسه مسلم بن الوليد فقال:
إِنَّ المَطِيَّةَ لا يَلَذُّ رُكُوبُهَا = حَتَّى تُذَلَّلَ بِالزِّمَامِ وَتُرْكَبَا
وَالْحَبُّ لَيْسَ بِنَافِعٍ أَرْبَابَهُ = حَتَّى يُفَصَّلَ في النِّظَامِ وَيُثْقَبَا
11. المواردة: وهي أن يقول الشاعران البيت الواحد لم يسمعه أحدهما من الآخر أو عنه سواء حتى وإن كان الاتفاق في بعض اللفظ وكل المعنى، كقول ابن الأعرابي:
مُفِيدٌ ومِتْلاَفٌ إِذا مَا أتَيْتَهُ = تَهَلَّلَ واهْتَزَّ اهْتِزَازَ المُهَنَّدِ
فقيل له: أَيْنَ يُذْهَبُ بِكَ؟ هَذا لِلْحُطَيْئَة.
فقال ابن الأعرابي: الآن عَلِمْتُ أنّي شاعر، إذْ وافَقْتُهُ على قولِهِ ولم أسمعه إلاَّ السّاعة، أي: لم يَسْمَعْ قول الحطيئة إلاَّ في هذه الساعة.
وكذا ادعى البعض أن من المواردة قول طرفة بن العبد:
وَقُوفاً بِهَا صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ = يَقُولُونَ: لاَ تَهْلَكْ أَسىً وتَجَلَّدِ
توارد مع قول امريء القيس:
وَقُوفاً بها صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ = يَقُولُونَ: لاَ تَهْلِكْ أسىً وتَجَمَّلِ
واستبعد ابن رشيق أن تكون هذه موارده وغلب أن يكون طرفة قد أخذه عن امريء القيس.
12. الالتقاط والتلفيق: وهو أن يلتقط الشاعر المعنى من أكثر من بيت لغيره فيجمعها في بيت كقول يزيد بن الطثرية:
إذا ما رآني مقبلاً غضَّ طرفه = كأنَّ شعاعَ الشمسِ دوني مقابله
فأوله من قول جميل:
إِذا ما رَأَوني طالعاً من ثَنيةٍ = يقولون: مَن هذا؟ وقد عَرَفوني
ووسطه من قول جرير:
فَغُضَّ الطَّرفَ إِنَّكَ مِن نُمَيرٍ = فَلا كَعباً بَلَغتَ ولا كِلابا
وعجزه من قول عنترة الطائي:
إِذا أَبصَرتَني أَعرضتَ عَني = كَأَنَّ الشَّمسَ مِن حَولي تَدورُ
13. كشف المعنى: وهو أن يأخذ الشاعر معنى من شعر غيره به بعض لبس أو صعوبة فهم فيبسطه ويكشفه، كقول امرئ القيس:
نمشي بأعراف الجياد أكفنا = إذا نحن قمنا عن شواء مضهب
وقال عبدة بن الطبيب بعده:
ثمة قمنا إلى جُردٍ مسومة = أعرافهن لأيدينا مناديل
فكشف المعنى وأبرزه.
14. الاتباع: وهو أن يتبع الشاعر غيره في المعنى فيزيد أو يساوي أو ينقص في المعنى، 
· فإن زاد فهذا فضل، كقول عنترة:
وإذا صحوتُ فما أُقصّر عن ندىً = وكما علمت شمائلي وتكرّمي
أخذه من قول امريء القيس:
وشمائلي ما قد علمت، وما = نبحت كلابك طارقاً مثلي

وقد قسم ابن الأثير السرقات إلى خمسة أقسام لكل منها أقسام تتضمنها:
أ‌- النسخ فهو أخذ اللفظ والمعنى برمته من غير زيادة عليه مأخوذا ذلك من نسخ الكتاب. 
ب‌- السلخ فهو أخذ بعض المعنى مأخوذا ذلك من سلخ الجلد الذي هو بعض الجسم المسلوخ
ت‌- المسخ فهو إحالة المعنى إلى ما دونه مأخوذا ذلك من مسخ الآدميين قردة
ث‌- أخذ المعنى مع الزيادة عليه 
ج‌- عكس المعنى إلى ضده
من أسباب ظهور السرقات الشعرية
من لأسباب القوية في قضية السرقات هي:
1- خلط الرواة، الذين يختلفون في النقل، والرواية عن الشعراء ، وبذلك يختلف النقل، وتختلط بعض الكلمات على الرواة؛ مما يُظن أنها سرقة.. كما قيل عن طرفة في بيته:
وقوفاً بها صحبي عليّ مطيّهم يقولون لا تهلك أسى وتجلّد
فقد اتفق النقاد على أنه سرقه من امرئ القيس في بيته:
وقوفاً بها صحبي عليّ مطيّهم يقولون لا تهلك أسى وتجمّل

مع العلم أن طرفة بن العبد (المتهم أعلاه) قد قال بيتا مشهوراً مترفعاً فيه عن السرقة:
و لا أغير على الأشعار أسرقها غنيتُ عنها وشرّ الناس من سرقا
وهذا سبب قوي لنشأة هذه القضية النقدية..
2- المنافسة بين الشعراء، والتكسب في بلاط الحكام، والخلفاء.
3- النقائض في الشعر الأموي.
4- شيوع الخلافات، والنزاعات بين القبائل، والشعراء.العصبيات القبلية والانقسامات السياسية التي حدثت في العصرالأموي
5- الاتهام بالسرقة يعدّ مذمة ومنقصة للشاعر؛ لارتباط هذا اللفظ دينياً بارتكاب هذا الجرم؛ مما جعل البعض يستغلّه، من مناوئين، ومنافسين لشاعرما ، حتى أصبح تراشق الاتهامات.

6- المعارضات الشعرية، وإن كانت في العصور المتأخرة..
7- السرقات في العصر العباسي أثارت حركة نقدية ضخمه تناولها النقاد بالدرس والبحث ونجد الشعراء قد زادوا من هذه الدراسات عن طريق تراشق التهم بينهم وتجمع المعارضين والمؤيدين عليهم هذه الحركات النقدية التي دارت حول شعراء هذه الفترة كانت السرقات هي محورها وهي الفيصل في الحكم على شاعرية الشاعر .
8- الحركة النقدية التي أحدثها البحتري وأبو تمام و أخرى كان المتنبي صاحبها وكان موضوع السرقات هو الجانب الأساسي فيها
أهمية الدراسات المنهجية  لقضية السرقات: 
يذهب بعض الباحثين الى أن دراسات السرقات دراسة منهجية لم تظهر إلا عندما ظهر أبو تمام ويميل محمد مندور إلى هذا الرأي استنادا لأمرين :
أولا : قيام خصومة عنيفة حول أبي تمام , والثابت لدينا أن مسألة السرقات قد اتخذت سلاحا قويا للتجريح حتى الفت كتب عدة لاحراج السرقات .
ثانيا : أن مؤيدي أبي تمام , وأصحابه عندما قالوا أن شاعرهم اخترع مذهبا جديدا وأصلح إماما فيه , لم يجد خصوم هذا المذهب سبيلا إلى رد ذلك الادعاء . خيرا من أن يبحثوا للشاعر عن سرقاته ليدلوا على أنه لم يجدد شيتا إنما اخذ من غيره وأفرط .
كتب الطبقات والتراجم :
1- كتاب ابن سلام الجمحي (طبقات فحول الشعراء) ...السرقات حدثت في العصر الجاهلي 
2- الشعر والشعراء لابن قتيبة هو كتاب من الطبقات فلقد نبه ابن قتيبة من السرقات الخفية ونبه أيضا على الاتباع والأخذ بكونات في الطريقة والنهج دون اللفظ والمعنى
كتب الأدب:
1-كتاب أخبار ابي تمام مؤلفه محمد يحي الصولي : يرى الصولي أن الشاعر اذا أخذ معنى ولفظ وزاد عليه كان أحق به
  الكتب العامه في النقد والأدب :
1- كتاب البديع لابن معتز : فطن ابن معتز أن السرقات قد تكون لون من ألوان البديع ودليل ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم (الضلم ضلمات) ولعل هذه الاشارة الاولى لهذا اللون من السرقات الذي شاع في العصور المتأخرة
2- كتاب عيار الشعرلابن طباطبا العلوي: يعتبر هذا الكتاب من أوائلالكتب النقدية فلتمس ابن طباطبا العذر من الشعراء المحدثين (لأنهم قد سبقوا الى كل معنى بديع ولفظ فصيح . وحيلة لطيفة وخلاية ساحرة ) لهذا أباح للشعراء الاقتداء بالأقدمية ولكن (ليس الاقداء بالمسيء. وانما الاقتداء بالمحسن ) 
 
إقرأ المزيد

مكتبة الموفع


إقرأ المزيد

نزار قباني




الاسم : نزار توفيق قباني

تاريخ الميلاد : 21 مارس 1923 .

محل الميلاد : حي مئذنة الشحم ..أحد أحياء دمشق القديمة .

حصل على البكالوريا من مدرسة الكلية العلمية الوطنية بدمشق ، ثم التحق بكلية الحقوق بالجامعة السورية وتخرّج فيها عام 1944 .

عمل فور تخرجه بالسلك الدبلوماسي بوزارة الخارجية السورية ، وتنقل في سفاراتها بين مدن عديدة ، خاصة القاهرة ولندن وبيروت ومدريد ، وبعد إتمام الوحدة بين مصر وسوريا عام 1959 ، تم تعيينه سكرتيراً ثانياً للجمهورية المتحدة في سفارتها بالصين .

وظل نزار متمسكاً بعمله الدبلوماسي حتى استقال منه عام 1966 .

طالب رجال الدين في سوريا بطرده من الخارجية وفصله من العمل الدبلوماسي في منتصف الخمسينات ، بعد نشر قصيدة الشهيرة " خبز وحشيش وقمر " التي أثارت ضده عاصفة شديدة وصلت إلى البرلمان .

كان يتقن اللغة الإنجليزية ، خاصة وأنه تعلّم تلك اللغة على أصولها ، عندما عمل سفيراً لسوريا في لندن بين عامي 1952- 1955.

الحالة الاجتماعية :
تزوّج مرتين .. الأولى من سورية تدعى " زهرة " وانجب منها " هدباء " وتوفيق " وزهراء .

وقد توفي توفيق بمرض القلب وعمره 17 سنة ، وكان طالباً بكلية الطب جامعة القاهرة .. ورثاه نزار بقصيدة شهيرة عنوانها " الأمير الخرافي توفيق قباني " وأوصى نزار بأن يدفن بجواره بعد موته .وأما ابنته هدباء فهي متزوجة الآن من طبيب في إحدى بلدان الخليج .

والمرة الثانية من " بلقيس الراوي ، العراقية .. التي قُتلت في انفجار السفارة العراقية ببيروت عام 1982 ، وترك رحيلها أثراً نفسياً سيئاً عند نزار ورثاها بقصيدة شهيرة تحمل اسمها ، حمّل الوطن العربي كله مسؤولية قتلها ..

ولنزار من بلقيس ولد اسمه عُمر وبنت اسمها زينب . وبعد وفاة بلقيس رفض نزار أن يتزوج .

وعاش سنوات حياته الأخيرة في شقة بالعاصمة الإنجليزية وحيداً .

قصته مع الشعر :
بدأ نزار يكتب الشعر وعمره 16 سنة ، وأصدر أول دواوينه " قالت لي السمراء " عام 1944 وكان طالبا بكلية الحقوق ، وطبعه على نفقته الخاصة .

له عدد كبير من دواوين الشعر ، تصل إلى 35 ديواناً ، كتبها على مدار ما يزيد على نصف قرن أهمها " طفولة نهد ، الرسم بالكلمات ، قصائد ، سامبا ، أنت لي " .

لنزار عدد كبير من الكتب النثرية أهمها : " قصتي مع الشعر ، ما هو الشعر ، 100 رسالة حب " .

أسس دار نشر لأعماله في بيروت تحمل اسم " منشورات نزار قباني " .

يقول عن نفسه : "ولدت في دمشق في آذار (مارس) 1923 بيت وسيع، كثير الماء والزهر، من منازل دمشق القديمة، والدي توفيق القباني، تاجر وجيه في حيه، عمل في الحركة الوطنية ووهب حياته وماله لها. تميز أبي بحساسية نادرة وبحبه للشعر ولكل ما هو جميل. ورث الحس الفني المرهف بدوره عن عمه أبي خليل القباني الشاعر والمؤلف والملحن والممثل وباذر أول بذرة في نهضة المسرح المصري.

امتازت طفولتي بحب عجيب للاكتشاف وتفكيك الأشياء وردها إلى أجزائها ومطاردة الأشكال النادرة وتحطيم الجميل من الألعاب بحثا عن المجهول الأجمل. عنيت في بداية حياتي بالرسم. فمن الخامسة إلى الثانية عشرة من عمري كنت أعيش في بحر من الألوان. أرسم على الأرض وعلى الجدران وألطخ كل ما تقع عليه يدي بحثا عن أشكال جديدة. ثم انتقلت بعدها إلى الموسيقى ولكن مشاكل الدراسة الثانوية أبعدتني عن هذه الهواية.

وكان الرسم والموسيقى عاملين مهمين في تهيئتي للمرحلة الثالثة وهي الشعر. في عام 1939، كنت في السادسة عشرة. توضح مصيري كشاعر حين كنت وأنا مبحر إلى إيطاليا في رحلة مدرسية. كتبت أول قصيدة في الحنين إلى بلادي وأذعتها من راديو روما. ثم عدت إلى استكمال دراسة الحقوق

تخرج نزار قباني 1923 دمشق - 1998 لندن في كلية الحقوق بدمشق 1944 ، ثم التحق بالعمل الدبلوماسي ، وتنقل خلاله بين القاهرة ، وأنقرة ، ولندن ، ومدريد ، وبكين ، ولندن.

وفي ربيع 1966 ، ترك نزار العمل الدبلوماسي وأسس في بيروت دارا للنشر تحمل اسمه ، وتفرغ للشعر. وكانت ثمرة مسيرته الشعرية إحدى وأربعين مجموعة شعرية ونثرية، كانت أولاها " قالت لي السمراء " 1944 ، وكانت آخر مجموعاته " أنا رجل واحد وأنت قبيلة من النساء " 1993 .

نقلت هزيمة 1967 شعر نزار قباني نقلة نوعية : من شعر الحب إلى شعر السياسة والرفض والمقاومة ؛ فكانت قصيدته " هوامش على دفتر النكسة " 1967 التي كانت نقدا ذاتيا جارحا للتقصير العربي ، مما آثار عليه غضب اليمين واليسار معا.

في الثلاثنين من أبريل/ نيسان 1999 يمر عام كامل على اختفاء واحد من أكبر شعراء العربية المعاصرين: نزار قباني.

وقد طبعت جميع دواوين نزار قباني ضمن مجلدات تحمل اسم ( المجموعة الكاملة لنزار قباني ) ، وقد أثار شعر نزار قباني الكثير من الآراء النقدية والإصلاحية حوله، لأنه كان يحمل كثيرا من الآراء التغريبية للمجتمع وبنية الثقافة ، وألفت حوله العديد من الدراسات والبحوث الأكاديمية وكتبت عنه كثير من المقالات النقدية . 
إقرأ المزيد

لا تصالح ْ!


للشاعر المصري الحزين أمل دنقل (*)

(1 )
لا تصالحْ!
..ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هي أشياء لا تشترى..:

ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك،
حسُّكما - فجأةً - بالرجولةِ،
هذا الحياء الذي يكبت الشوق.. حين تعانقُهُ،
الصمتُ - مبتسمين - لتأنيب أمكما..
وكأنكما
ما تزالان طفلين!
تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:
أنَّ سيفانِ سيفَكَ..
صوتانِ صوتَكَ
أنك إن متَّ:
للبيت ربٌّ
وللطفل أبْ
هل يصير دمي -بين عينيك- ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَ بالدماء..
تلبس -فوق دمائي- ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرب!
(2)
لا تصالح على الدم.. حتى بدم!
لا تصالح! ولو قيل رأس برأسٍ
أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟
أقلب الغريب كقلب أخيك؟!
أعيناه عينا أخيك؟!
وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك
بيدٍ سيفها أثْكَلك؟
سيقولون:
جئناك كي تحقن الدم..
جئناك. كن -يا أمير- الحكم
سيقولون:
ها نحن أبناء عم.
قل لهم: إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك
واغرس السيفَ في جبهة الصحراء
إلى أن يجيب العدم
إنني كنت لك
فارسًا،
وأخًا،
وأبًا،
ومَلِك!
(3)
لا تصالح ..
ولو حرمتك الرقاد
صرخاتُ الندامة
وتذكَّر..
(إذا لان قلبك للنسوة اللابسات السواد ولأطفالهن الذين تخاصمهم الابتسامة)
أن بنتَ أخيك "اليمامة"
زهرةٌ تتسربل -في سنوات الصبا-
بثياب الحداد
كنتُ، إن عدتُ:
تعدو على دَرَجِ القصر،
تمسك ساقيَّ عند نزولي..
فأرفعها -وهي ضاحكةٌ-
فوق ظهر الجواد
ها هي الآن.. صامتةٌ
حرمتها يدُ الغدر:
من كلمات أبيها،
ارتداءِ الثياب الجديدةِ
من أن يكون لها -ذات يوم- أخٌ!
من أبٍ يتبسَّم في عرسها..
وتعود إليه إذا الزوجُ أغضبها..
وإذا زارها.. يتسابق أحفادُه نحو أحضانه،
لينالوا الهدايا..
ويلهوا بلحيته (وهو مستسلمٌ)
ويشدُّوا العمامة..
لا تصالح!
فما ذنب تلك اليمامة
لترى العشَّ محترقًا.. فجأةً،
وهي تجلس فوق الرماد؟!
(4)
لا تصالح
ولو توَّجوك بتاج الإمارة
كيف تخطو على جثة ابن أبيكَ..؟
وكيف تصير المليكَ..
على أوجهِ البهجة المستعارة؟
كيف تنظر في يد من صافحوك..
فلا تبصر الدم..
في كل كف؟
إن سهمًا أتاني من الخلف..
سوف يجيئك من ألف خلف
فالدم -الآن- صار وسامًا وشارة
لا تصالح،
ولو توَّجوك بتاج الإمارة
إن عرشَك: سيفٌ
وسيفك: زيفٌ
إذا لم تزنْ -بذؤابته- لحظاتِ الشرف
واستطبت- الترف
(5)
لا تصالح
ولو قال من مال عند الصدامْ
".. ما بنا طاقة لامتشاق الحسام.."
عندما يملأ الحق قلبك:
تندلع النار إن تتنفَّسْ
ولسانُ الخيانة يخرس
لا تصالح
ولو قيل ما قيل من كلمات السلام
كيف تستنشق الرئتان النسيم المدنَّس؟
كيف تنظر في عيني امرأة..
أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها؟
كيف تصبح فارسها في الغرام؟
كيف ترجو غدًا.. لوليد ينام
-كيف تحلم أو تتغنى بمستقبلٍ لغلام
وهو يكبر -بين يديك- بقلب مُنكَّس؟
لا تصالح
ولا تقتسم مع من قتلوك الطعام
وارْوِ قلبك بالدم..
واروِ التراب المقدَّس..
واروِ أسلافَكَ الراقدين..
إلى أن تردَّ عليك العظام!
(6)
لا تصالح
ولو ناشدتك القبيلة
باسم حزن "الجليلة"
أن تسوق الدهاءَ
وتُبدي -لمن قصدوك- القبول
سيقولون:
ها أنت تطلب ثأرًا يطول
فخذ -الآن- ما تستطيع:
قليلاً من الحق..
في هذه السنوات القليلة
إنه ليس ثأرك وحدك،
لكنه ثأر جيلٍ فجيل
وغدًا..
سوف يولد من يلبس الدرع كاملةً،
يوقد النار شاملةً،
يطلب الثأرَ،
يستولد الحقَّ،
من أَضْلُع المستحيل
لا تصالح
ولو قيل إن التصالح حيلة
إنه الثأرُ
تبهتُ شعلته في الضلوع..
إذا ما توالت عليها الفصول..
ثم تبقى يد العار مرسومة (بأصابعها الخمس)
فوق الجباهِ الذليلة!
(7)
لا تصالحْ، ولو حذَّرتْك النجوم
ورمى لك كهَّانُها بالنبأ..
كنت أغفر لو أنني متُّ..
ما بين خيط الصواب وخيط الخطأ.
لم أكن غازيًا،
لم أكن أتسلل قرب مضاربهم
لم أمد يدًا لثمار الكروم
لم أمد يدًا لثمار الكروم
أرض بستانِهم لم أطأ
لم يصح قاتلي بي: "انتبه"!
كان يمشي معي..
ثم صافحني..
ثم سار قليلاً
ولكنه في الغصون اختبأ!
فجأةً:
ثقبتني قشعريرة بين ضلعين..
واهتزَّ قلبي -كفقاعة- وانفثأ!
وتحاملتُ، حتى احتملت على ساعديَّ
فرأيتُ: ابن عمي الزنيم
واقفًا يتشفَّى بوجه لئيم
لم يكن في يدي حربةٌ
أو سلاح قديم،
لم يكن غير غيظي الذي يتشكَّى الظمأ
(8)
لا تصالحُ..
إلى أن يعود الوجود لدورته الدائرة:
النجوم.. لميقاتها
والطيور.. لأصواتها
والرمال.. لذراتها
والقتيل لطفلته الناظرة
كل شيء تحطم في لحظة عابرة:
الصبا - بهجةُ الأهل - صوتُ الحصان - التعرفُ بالضيف - همهمةُ القلب حين يرى برعماً في الحديقة يذوي - الصلاةُ لكي ينزل المطر الموسميُّ - مراوغة القلب حين يرى طائر الموتِ
وهو يرفرف فوق المبارزة الكاسرة
كلُّ شيءٍ تحطَّم في نزوةٍ فاجرة
والذي اغتالني: ليس ربًا..
ليقتلني بمشيئته
ليس أنبل مني.. ليقتلني بسكينته
ليس أمهر مني.. ليقتلني باستدارتِهِ الماكرة
لا تصالحْ
فما الصلح إلا معاهدةٌ بين ندَّينْ..
(في شرف القلب)
لا تُنتقَصْ
والذي اغتالني مَحضُ لصْ
سرق الأرض من بين عينيَّ
والصمت يطلقُ ضحكته الساخرة!
(9)
لا تصالح
ولو وقفت ضد سيفك كل الشيوخ
والرجال التي ملأتها الشروخ
هؤلاء الذين تدلت عمائمهم فوق أعينهم
وسيوفهم العربية قد نسيت سنوات الشموخ
لا تصالح
فليس سوى أن تريد
أنت فارسُ هذا الزمان الوحيد
وسواك.. المسوخ!
(10)
لا تصالحْ
لا تصالحْ
(*) ولد في عام 1940 بقرية "القلعة", مركز "قفط" على مسافة قريبة من مدينة "قنا" في صعيد مصركان والده عالماً من علماء الأزهر, حصل على "إجازة العالمية" عام 1940فأطلق اسم "أمل" على مولوده الأول تيمناً بالنجاح الذي أدركه في ذلك العاموكان يكتب الشعر العمودي, ويملك مكتبة ضخمة تضم كتب الفقه والشريعة والتفسير وذخائر التراث العربي, التي كانت المصدر الأول لثقافة الشاعرفقد أمل دنقل والده وهو في العاشرة, فأصبح, وهو في هذا السن, مسؤولاً عن أمه وشقيقيهأنهى دراسته الثانوية بمدينة قنا, والتحق بكلية الآداب في القاهرة لكنه انقطع عن متابعة الدراسة منذ العام الأول ليعمل موظفاً بمحكمة "قنا" وجمارك السويس والإسكندرية ثم موظفاً بمنظمة التضامن الأفرو آسيوي, لكنه كان دائم "الفرار" من الوظيفة لينصرف إلى "الشعر". عرف بالتزامه القومي وقصيدته السياسية الرافضة ولكن أهمية شعر دنقل تكمن في خروجها على الميثولوجيا اليونانية والغربية السائدة في شعر الخمسينات, وفي استيحاء رموز التراث العربي تأكيداً لهويته القومية وسعياً إلى تثوير القصيدة وتحديثهاعرف القارىء العربي شعره من خلال ديوانه الأول "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" (1969) الذي جسد فيه إحساس الإنسان العربي بنكسة 1967 وأكد ارتباطه العميق بوعي القارىء ووجدانهصدرت له ست مجموعات شعرية هيالبكاء بين يدي زرقاء اليمامة" - بيروت 1969تعليق على ما حدث" - بيروت 1971مقتل القمر" - بيروت 1974العهد الآتي" - بيروت 1975أقوال جديدة عن حرب البسوس" - القاهرة 1983أوراق الغرفة 8" - القاهرة 1983لازمه مرض السرطان لأكثر من ثلاث سنوات صارع خلالها الموت دون أن يكفّ عن حديث الشعر, ليجعل هذا الصراع "بين متكافئين: الموت والشعر" كما كتب الشاعر أحمد عبد المعطي حجازيتوفي إثر مرض في أيار / مايو عام 1983 في القاهرة.
إقرأ المزيد