468x60 Ads

اللفظ والمعني في النقد العربي القديم

مختصرات نقدية
اللفظ والمعني في النقد العربي القديم 

عالج النقد القديم تحت هذا العنوان مباحث كثيرة متنوعة ومتداخلة تتعلق ببنية النص الشعري وجمالياته ، متناولاً كلاً من اللفظ والمعنى منفردين ومجتمعين من حيث دورهما في التركيب الفني للنص الشعري . و لم يؤخذ في الاعتبار في ذلك التناول الالتحام الحتمي و التفاعل الجمالي بينهما داخل النص الأدبي ، وحتى في حالة اجتماعهما يعالج ذلك الاجتماع على أنه تركيب جسمين منفصلين يتم استحضار كل منهما من عالمه المستقل . وبذلك يبقى الانفصال بين اللفظ والمعنى حاضراً حتى في حال اجتماعهما الشكلي .
ويمكننا ملاحظة تأصل الانفصال بين اللفظ والمعنى في النقد العربي القديم حين نطالع تلك التقسيمات المنطقية لدرجات الجمال في النصوص الشعرية على أساس اللفظ والمعنى . ولم يكن ابن قتيبة الوحيد في تقسيمه المعروف ، إلا انه مثال مبكر واضح على عمق فكرة الانفصال بين اللفظ والمعنى في النقد العربي القديم. " ومن الواضح أن هذا التقسيم تقريري صارم ، يقدم اللفظ و المعنى مفصولين احدهما عن الآخر معيارا ًنقدياً للشعر " ، و قد تناولت الدراسات الحديثة فكرة انفصال المعنى عن اللفظ في النقد القديم ، فمن الدارسين من حاول نفيها أو تحويرها عند دراسته لبعض النقاد ، ومن الدارسين من أكد تلك الفكرة و وضّح صورها .
على أننا نلاحظ أن الذين حاولوا نفي هذه الظاهرة انطلقوا من معالجات جزئية انتقائية أثناء تناولهم لناقد معين ، ونذكر مثالاً على ذلك رأي الدكتور عبدالسلام عبدالعال في معرض حديثه عن القضية عند ابن طباطبا ، فهو يناقش تناول ابن طباطبا للعلاقة بين اللفظ و المعنى في عيار الشعر ، فينتهي إلى أن " ابن طباطبا قد خطا بحيوية العلاقة بين اللفظ و المعنى خطوة كبيرة ، أساسها التآزر الحيوي بين العنصرين ، بحيث لا يمكن الفصل بينهما ، و بحيث يتأثر كل منهما بصاحبه قوةً و ضعفاً، دون تمييز لأحدهما عن الآخر " ، و هو يبني هذا الرأي على إشارة ان طباطبا إلى تشبيه الحكماء للكلام في لفظه و معناه بالجسد و الروح ، و استعماله ذلك التشبيه في وصف تلاؤم اللفظ مع المعنى . ، و نذكر أيضا الدكتور أحمد مطلوب في تناوله الجانبي لابن رشيق في معرض دراسته لعبد القاهر الجرجاني ، ؛حيث يعلق على كلام ابن رشيق عن علاقة اللفظ و المعنى بأنه ربط بين ركني الكلام : اللفظ و المعنى ، و جعلهما العمدة حسنه و جودته . 
أما الدارسين الذين أكدوا حضور ظاهرة ثنائية اللفظ و المعنى في النقد القديم ، فيلاحظ عليهم النظرة الشمولية للظاهرة ، خاصةً أن تناولهم لها يأتي في معرض دراسات عامة تعرض للنقد القديم في ظواهره العامة ، بمقارنة وصفية لعدد من النقاد و ليس ناقد معين لتأريخ مذهبه النقدي . و من هؤلاء الدكتور مصطفى ناصف في دراسته الشاملة لنظرية المعنى في النقد القديم " هم – أي القدماء – يقولون : إن اللفظ الحسن كالثوب الحسن ، و اللفظ القبيح كالثوب القبيح ، و يقولون : إن الألفاظ كسوة للمعاني ، الألفاظ تحسّن المعاني كما يحسّن الثوب لابسه ، في كل هذه الكلمات و ما يشبهها تعتبر اللغة مجرد كساء نغطي به أفكارنا . أفكارنا موجودة و اللغة غلاف عليها ، و الغلاف معروف منفصل عما يحتويه " . وللناقدين: زكي عشماوي و العماري رأي قريب من ذلك في تناول كل منهما للقضية ، و كما لاحظنا جاءت آراء هؤلاء الدارسين الثلاثة في معرض دراسات شمولية تتناول قضايا النقد لا شخصيات النقاد . 
وهكذا لم تتناول قضية اللفظ والمعنى (( العمل الأدبي كله بحيث تتطور إلى ما يسمى الشكل و المضمون ، ولاهي استطاعت أن تقترب مما قد يسمى ( الصلة الداخلية ) بين هذين ، ولعلها كانت ذات أثر بعيد في صرف النقد عن تبين وحدة الأثر الفني في منشئه الكلي)) . 
وبسبب هذا الانفصال جاء تناول القدماء للقيمة الجمالية للفظ و المعنى مضطرباً ، فهم يضعون مقاييس للفظ و مقاييس للمعنى ، و في الوقت ذاته يمزجون بين تلك المقاييس و يحاولون إخضاعها لتصنيف علمي صارم ، و لعل ذلك يعود في أساسه إلى انصهار النقد في جملة المنهجية العلمية التي اتسم بها العصر ، وذلك حين يتطلب النقاد الموضوعية في دراسة الشعر دون أن ينتبهوا إلى أن الشعر فن قولي لا يخضع لمقاييس التصنيف العلمي . 
أخذ موقف القدماء من الألفاظ طابعه من اعتبار اللفظ عنصراً أساسيا من عناصر النص الشعري ، وتبعاً لما أثاره ظهور الشعر المحدث من خصومة بين تياري الشعر القديم و المحدث كما ذكرنا سابقاً أخذ اللفظ مكانه من التقنين والتقييد عبر ( عمود الشعر ) في مراحل تبلوره . 
فقد هجرت ألفاظ الشعر المحدث سمات البداوة من الجزالة والخشونة ثم أدخلت المصطلحات العلمية وعبرت عن المعاني العقلية ، فخرجت عن نمط الألفاظ التي كان موضوعها النسيب والفخر في منابعها البدوية ، واصطدمت بمألوف الذوق في ألفاظ الشعر القديم من قوة موسيقاها الداخلية وجزالتها ، بحيث استدعى الأمر مواجهة نقدية قوية لذلك الاتجاه في الالفاظ . وهذا ابن رشيق يقرر أن " للشعراء ألفاظاً معروفة وأمثلة مألوفة لا ينبغي للشاعر أن يعدوها ، ولا أن يستعمل غيرها ، كما أن الكتاب اصطلحوا على ألفاظ بأعينها يسمونها الكتابية ، لا يتجاوزونها إلى سواها ، والفلسفة وجر الأخبار باب غير الشعر ، فإن وقع فيه منها شئ فبقدر ، وإنما الشعر ما أطرب وهز النفوس وحرك الطباع " . والمتتبع لما قاله القدماء بهذا الخصوص " يخرج بيقين مفاده أنهم يؤمنون بوجود لغة خاصة للشعر قد لا تستعمل في غيره من الفنون " .
لكن ذلك التحدي الذي وضع فيه التيار النقدي المحافظ على تقاليد الشعر القديم كان دافعاً للبحث في قضايا جديدة يعرضها الواقع الجديد الذي أثاره الشعر المحدث ، فراجع النقاد مسألة المعاصرة من حيث علاقة الشعر بجمهوره المعاصر،حين أصبح المتلقي عنصراً مهماً من عناصر العملية الشعرية ، فباتت الصلاحية المطلقة للجزالة والخشونة اللفظية أمراً قابلاً للمناقشة وفق علاقة الشعر بالمتلقي المعاصر وبالمقابل كانت الاصطلاحات العلمية والمعاني العقلية التي حملت بها ألفاظ الشعر المحدث مثيرة لقضية أخرى هي الوظيفة الفنية للشعر . 
وهكذا لم تعد الصفات التي رسخها عمود الشعر للفظ وهي الجزالة والاستقامة مطلقة ، بل أصبح هناك طرفان متناقضان للألفاظ كلاهما مرفوض ، وهما ( الوعورة والوحشية والغرابة ) يقابلها ( الركاكة والضعف ) ، ويقع بين الطرفين درجات متفاوتة يتحدد ضمنها اللفظ المقبول ، وهكذا اتسعت الذائقة النقدية لتتقبل العذوبة والرقة إلى جانب الجزالة والقوة في الألفاظ ، ويعرف ابن رشيق حدود اللفظ المقبول في قوله : " الوحشي من الكلام ما نفرعنه السمع والمتكلف ، وما بعد عن الطبع . والركيك هو ما ضعفت بنيته وقلت فائدته ، واشتقاقه من الركة وهي المطر الضعيف ... وإذا كانت اللفظة خشنة مستغربة لا يعلهما إلا العالم المبرز والأعرابي القح فتلك وحشيته " . و يقول العسكري " الشعر كلام منسوج و لفظ منظوم ، و أحسنه ما تلاءم نسجه و لم يسخف ، و حسن لفظه و لم يهجن . و لم يستعمل فيه الغليظ من الكلام ، فيكون جلفاً بغيضاً ، ولا السوقي من الألفاظ فيكون مهلهلاً دوناً " .
و نلفت النظر هنا إلى تنبه بعض النقاد إلى دور التلقي و ما يتبعه من ظروف العصر و البيئة في مقاييس اللفظ و المعنى ، و من ذلك وصف القاضي الجرجاني لمقاييس الأسلوب الشعري ، " فإذا كانت فخامة الأساليب الشعرية مطلباً جمالياً للذائقة الجمالية في الجاهلية و ما تابعها ، فإن رقة الأساليب و دماثتها غدت مطلب الذائقة الجمالية عند سكان المدن و الحواضر في العصر العباسي .
ولم يكتف النقد القديم بمعالجة اللفظ في صورة مفردات كما سبق ، بل نظر القدماء إلى التركيب اللفظي على الرغم من بقاء الانفصال بين هذا التركيب ومحتواه من المعاني قائماً ، حيث كان اهتمامهم بالتركيب اللفظي منصباً على مستويين هما :. مستوى الصحة والاستقامة على القوانين اللغوية المعروفة ، ومستوى التآلف والانسجام بين عناصر التركيب . ولم تخرج مقاييس التركيب اللفظي المثالي عن مقاييس اللفظ المفرد من حيث وصفه بالقوة و الجزالة و الفصاحة . وقد عبر النقاد عن التركيب اللفظي بمصطلحات مثل ( النظم )* و ( المبنى )* ، و نذكر مثالاً على ذلك حازم القرطاجنى * ، الذي وضع للمباني قسماً في كتابه.
( منهاج البلغاء ) مستقلاً عن المعاني " حيث يشكل كلام حازم على المباني القسم الثاني من كتابه ( منهاج البلغاء ) الذي خصص القسم الأول منه للمعاني ، وهو في ذلك كغيره مـــن النقاد ، ويتكلم عن المبنى في معزل عن المعنى ، باستثناء الإرشادات إلى ضرورة تناسب عناصر المبنى مع المقاصد أو الأغراض التي تمت إلى المعاني بصلة ما ، نقصد بذلك إلى القول إن النقاد بعامة قد سوغوا لأنفسهم الكلام على مبنى منفصل عن أي معنى ، وذلك لاعتقادهم بوجود عناصر للشعر يتمتع كل منها باستقلاله عن الآخر " . 
أما إذا انتقلنا للمعنى في النقد القديم ، فقد نظر النقاد القدماء إلى المعنى " على أنه الماهية أي ما هو متعارف عليه ، ما هو موجود في معزل عن الإحساس الجمالي أو الذوق " . حيث نجد أن ابن قتيبة في مفهومه الشعري للمعنى " لا يذه ببعيداً عن حدود الخبر و الفكرة و المعلومة أياً كانت هويتها ، و الحكمة و الموعظة و القيمة الخلقية ، و المعنى المشترك ذي المنحى الاجتماعي " ، و لا يبعد عنه ابن طباطبا حين يصفبعض الأشعار بأنها" أنيقة الألفاظ حكيمة المعاني " وهذا ما يفسر تناول النقاد للمعنى على أنه عنصر من عدة عناصر منفصلة تكون النص الشعري ، فهذا قدامة يضع للمعنى نعوتاً على أنه عنصر من عناصر الشعر قسيماً للفظ و الوزن و القافية ، حيث يقول في المعنى " المعاني كلها معروضة للشاعر ، وله أن يتكلم منها فيما أحب وآثرمن غير أن يحظر عليه معنى يروم الكلام فيه إذ كانت المعاني للشعر بمنزلة المادة الموضوعة ، والشعر فيها كالصورة ، كما يوجد في كل صناعة من أن لابد فيها من شئ موضوع يقبل تأثير الصور منها ، مثل الخشب للنجارة والفضة للصياغة " . 
وبهذا الوصف تعرض المعنى للبحث في قيمته الجمالية عند القدماء ، حيث المعاني بهذا الوصف عامة من حيث أنها تمثل الموروث الأخلاقي العام للناس ، " فهي في متناول الجميع ، أوأنها كما يقول الجاحظ ( مطروحة في الطريق ) . لها قيمة المأثور المركوز في الطباع " ، وهكذا قوبل الابتكار في المعاني في صورتها العامة بالرفض والاستنكار لعلاقتها بالموروث القيمى الأخلاقي . حيث اتصف المعنى في ( عمود الشعر ) بالشرف والصحة وكان عياره ( الفهم الثاقب والعقل الصحيح ) .
وكان لهذا التصور الأخلاقي أثره في ربط الشعر بالواقع ، واعتباره تمثيلاً له ، حيث امتدًت هذه المعالجة الواقعية لتشمل مختلف عناصر العمل الإبداعي الشعري . وعلى هذا الأساس جاء تناول النقاد القدماء للمعنى المبتكر في الشعر ، ويتمثل ذلك الابتكار في تصرف الشاعر في مادة المعنى و فكرته التي هي جزء من الواقع ليبتكر معناه الخاص باستخدام الوسائل البيانية بحيث يخرج صورة جديدة للواقع . وفي هذا السياق جاء تناولهم للاستعارة والمجاز والتشبيه ، ولذلك كان التفاضل بين الشعراء في التوضيح والإبانة عن الغرض الذي ينتمي إلى المعــاني العامة ، فكان من نصيب الاستعارة و بقية الأساليب البيانية التي يوظفها الشاعر لصياغة معناه الخاص في عمود الشعر وضوح الدلالة والتقريب . فإذا كان المعنى العام هو مادة أولية تستمد عناصرها من الواقع ، فإن المعنى الخاص ينحصر دوره في استخدام وسائل البيان لتوصيل هذا الواقع المرتبط بالقيم الموروثة ، " فقد نظر إلى المعنى على أنه إخراج مستمر لقيم مستقرة في العقول ، قيم كالشرف والنسب والبطولة والشجاعة ، والكرم والوفاء والثأر وغيرها ، والمعاني هي إعادة إنتاج لها عبر صياغات مختلفة في تزيينيتها " وعليه فان وسائل التخييل البيانية معيارها الجمالي هو محاكاة الواقع وتمثيله بأحسن الطرق للتأثير على المتلقي . و إن أخطر شئ في موقف معظم النقاد القدماء هو تطلبهم في المعنى الوضوح و الفائدة و الحكمة و الاتفاق التام مع القيم و المعايير السائدة . 
وقد وجدت مداخل مختلفة لتناول الابتكار في المعاني ، فنوقش الابتكار في ضوء مفهوم الطبع و الصنعة ، وكان ( الطبع ) في تصور معظم النقاد القدماء هو اعتماد الشاعر في إنتاج شعره على المألوف باعتباره هو المركوز في الطباع من الموروث الشعري فـ"ليس الشعر عند أهل العلم به إلا : حسن التأتي ، و قرب المأخذ ، ووضع الألفاظ في مواضعها ، و أن يورد المعنى باللفظ المعتاد المستعمل في مثله " ، ولذلك ارتبط رفض الابتكار في المعنى بالطبع كمعيار للشعر " فالطبع هو العقلية الشعرية التي يرثها الشاعر، ومن ثم يحسن استخدامها بإعادة ترتيب الالفاظ ، وقد كانت الصنعة لدى كثير من النقاد اكثر من مجرد استعمال الألفاظ الغريبة ، وعدم وضوح الأغراض الشعرية وإنما تعدت ذلك إلى كل إمكانية في الكشف ، وافتتاح مناطق شعرية جديدة " .
كما نوقش الابتكار من جهة أثره على المتلقي من منظور جمالي جاء ليوطد المنظور الأخلاقي السابق ، وعلى هذا الأساس سمح القدماء بدرجة من توليد المعنى تضمن الفعالية الجمالية من حيث الاحتفاظ بوعي القارئ لتنشيط تفاعله مع النص ، فتناولوا الطرافة المعنوية ، وإظهار المألوف في صورة الجديد بوسائل بيانية ، لكنهم تمسكوا بالحفاظ على القديم حيث تكون الطرافة حيلة أسلوبية تضاف إلى القديم لإيهام المتلقي بطرافة غير حقيقية ، ومن ذلك موقف ابن طباطبا في عيار الشعر من توليد المعاني عند المحدثين ، و كذلك رؤية القاضي الجرجاني في الوساطة لموقف الشاعر المحدث من المعاني ، و قريباً منهما ابن رشيق القيرواني في العمدة .
وهكذا سيطر التصور الأخلاقي الذي يربط النص بالواقع على تناول النقاد للمعنى ، وذلك حين وقفوا من ( توليد المعاني ) وابتكارها موقفا حذراً حتى حين وظفوهما لخدمة التصور الأخلاقي للمعنى . وكان لهذا الموقف جذوره في قضية القديم والمحدث ، حيث المعيار الأخلاقي الذي تحدثنا عنه سابقاً وصلته بالمتلقي هو الباعث الأقوى خلف هذا الموقف ، ومثلما مثل القديم مألوف الناس ، وارتبط المألوف بالقيم الموروثة ، ارتبط الشعر المحدث بالخروج على المألوف وأصبح الابتكار في المعاني نظيراً لرفض القديم بما يمثله من قيم مقدسة " فقد كان النقد في معظمه يروج للاعتماد على حساسية شعرية لا ترتبط فقط بخصوصية اللغة عند العرب ، بل بخصوصية وجودهم وأفكارهم " .
وكما رأينا فقد وجد النقاد القدماء أنفسهم في موقف مضطرب عند الحديث عن المعنى منفصلاً عن اللفظ ، وعند محاولة وضع معايير مستقلة لكل منهما ، حيث لايمكن نسبة أي قيمة جمالية للمعنى العام الذي مثل عند القدماء قيم مجردة لاتفاوت فيها بين الشعراء . وأما المعنى الخاص الذي نوقش في مستواه التوليد و الابتكار فلا يمكن إغفال دور اللفظ فيه ، وبسبب هذه العلاقة الحتمية بين اللفظ والمعنى اضطرب النقاد في تحديد الأفضلية في قيمة الإبداع الشعري الجمالية لأحدهما ، و من أمثلة ذلك الاضطراب ما وصفه الدكتور أحمد مخلوف من أن " ابن رشيق تبلغ به الحيرة و التردد بين اللفظ و المعنى حداً يروي لنا معه للعباس بن حسن العلوي في صفة بليغ قوله ( معانيه قالب لألفاظه ...) ثم خالف في موضع آخر فقال ( ألفاظه قوالب لمعانيه ) " ، و أما أبو هلال العسكري ففي حين يرى أن مدار البلاغة على تحسين اللفظ ، نراه يقدم الإصابة في المعنى على تحسين اللفظ . و قبلهما نرى ابن طباطبا يحدد صفات الجودة في الشعر بقبول الفهم لها " و الفهم يأنس من الكلام بالعدل الصواب الحق ، و الجائز المعروف المألوف " ، ثم هو بعد ذلك بقليل ينسب جودة المعاني إلى ما فيها من استفزاز السامع ، و ذلك بـ" التعريض الخفي الذي يكون بخفائه أبلغ في معناه من التصريح الظاهر الذي لا ستر دونه " .
وقد سببت العلاقة المضطربة بين اللفظ والمعنى في ذهن النقاد تلك المواقف المضطربة من دور كل منهما في البنية الفنية للنص الشعري . فلم يتوصلوا للعلاقة التفاعلية بينهما بشكل يقضي على مظاهر الاضطراب السابقة ، حتى جاء عبد القاهر الجرجانى بنظريتـــــــه في ( النظم ) .
لقد نظر عبد القاهر الجرجاني إلى العلاقة بين اللفظ والمعنى نظرة عميقة ، أغنت تصوره لكثير من قضايا الشعر ، وبواسطتها استطاع تنظيم كثير من المفاهيم النقدية قبله ، وقد أقام عبد القاهر بحثه في تلك العلاقة على أساس إنكار الفصل بين اللفظ والمعنى ، واثبات استحالة وجود أحدهما بدون الأخر ، لاسيما في التركيب الشعري . 
و قدوضح موقفه من اضطراب النقاد في هذا المجال قبله ، حين قال في اللفظ : " أنهم لما جهلوا شأن الصور ، وضعوا لأنفسهم أساسا ، وبنوا على قاعدة ، فقالوا : إنه ليس إلا المعنى واللفظ ولا ثالث لهما ، وأنه إذا كان كذلك وجب إذا كان لأحد الكلامين فضيلة لاتكون للاخر ثم كان الغرض من أحدهما هو الغرض من صاحبه أن يكون مرجع تلك الفضيلة إلى اللفظ خاصة ، وأن لا يكون لها مرجع إلى المعنى من حيث إن ذلك زعموا يؤدي إلى التناقض ، وأن يكون معناهما متغايراً وغير متغاير معاً " و بذلك يرفض عبد القاهر نسبة القيمة الجمالية الشعرية إلى اللفظ والتصغير من شأن المعنى . 
إلا أنه رفض أيضا أن تكون القيمة الجمالية في الشعر راجعة إلى المعنى وحده " فسبيل المعاني أن ترى الواحد منها غفلاً ساذجاً عامياً موجوداً في كلام الناس كلهم ، ثم تراه نفسه وقد عمد إليه البصير بشأن البلاغة وإحداث الصور في المعاني ، فصنع فيه ما يصنع الحاذق حتى يعرب في الصنعة ، ويدق في العمل ويبدع في الصياغة " .
وبذلك يخرج لنا مفهوم الصياغة الذي يمتزج فيه اللفظ والمعنى ليشكلا وحدة جمالية لا يمكن فصل عناصرها ، وقد عبر عبدالقاهر عن هذا الامتزاج بمصطلح ( النظم )* الذي وظف فيه القواعد النحوية الجامدة ، وأدخلها كمعيار مرن للقيمة الجمالية في التركيب الشعري . فمسؤولية النظم إذاً خدمة المعنى الجمالي عن طريق توظيف القواعد النحوية ، فالكلم " تترتب في النطق بسبب ترتيب معانيها في النفس ، وإنها لو خلت من معانيها حتى تتجرد أصواتا وأصداء حروف لما وقع في ضمير ولاهجس في خاطر أن يجب فيها ترتيب ونظم ، وأن يجعل لها أمكنة ومنازل ، وان يجب النطق بهذه قبل النطق بتلك" 
وعن طريق الربط الوثيق بين اللفظ والمعنى في (النظم) وضع عبد القاهر تصورات مختلفة للأساليب البيانية باعتبارها وسائل معنوية تضفي القيمة الجمالية للنص الشعري ، متحرراً من القيود المعيارية التي وضعت فيها تلك الأساليب البيانية لدى النقاد قبل عبد القاهر و بعده ، " فالبلاغة عند عبد القاهر لاتهدف إلى تحديد القاعدة التي تهتم بالناحية التنظيرية للمسميات كالتشبيه والاستعارة والمجاز والتمثيل وغيرها بتعريفتها وأقسامها ، بقدر ما يهدف مجالها إلى تأسيس الفكرة الجمالية للصور الفنية التي يحققها النظم كتركيب لغوي " .
و عبدالقاهر في مفهومه للنظم يقدم للنقد تصوراً عميقاً لمفهوم الصورة بكل ما تعنيه من الصياغة الفنية و الإيحاءات الجمالية ، و ما تتطلبه من انصهار تام لعناصر الشعرية من معنى و لفظ و صياغة . و ضمن هذه الفكرة عدل عبد القاهر من معايير الصورة كتوظيف خاص للمعنى يوظف فيه الشاعر الأساليب البيانية في عمود الشعر ، تلك التي كانت تحدد بالوضوح في التعبير عن الغرض ، وبالتناسب والمحافظة على العلاقات الواقعية بين أجزائها ، ثم بالمحافظة على النماذج الشعرية الموروثة ، حيث أصبح المعيار في التشبيه و الاستعارة عند عبد القاهر مقدار البعد وخفاء العلاقات داخل أجزاء الصورة لتي يؤديانها ، و ذلك على أساس تعديل دور المتلقي في العملية الشعرية ، بحيث يتحرر المعنى عند عبد القاهر من قيود التصور الأخلاقي ، فخفاء العلاقات والتباعد بين أطراف الصورة كفيل بإحداث التعجيب المطلوب لإثارة انتباه المتلقي ، وإحداث نوع من المتعة ناشئ عن المجهود الذي يبذله المتلقي للوصول إلى المعنى ، فالتعجيب عند عبد القاهر غير محدود بحدود المعقول أو النماذج الموروثة كما كانت الطرافة عند النقاد قبله .
وبفضل فهمه الخاص للعلاقة بين اللفظ والمعنى استطاع عبد القاهر أن ينظم المفاهيم المضطربة عن ( اللفظ ) و (المعنى ) ووضع مفاهيم منظمة لكل منهما ، تنتظم على أساسها العلاقة بينهما عبر ( النظم ) ، وتأخذ صوراً ومراتب مختلفة ، فيها تظهر القيمة الجمالية للشعر ، والفرادة الإبداعية للشاعر، فهناك المعنى ، وهناك معنى المعنى* . " فالمعنى هو المفهوم من ظاهر اللفظ ، والذي تصل إليه بغير واسطة ، ومعنى المعنى هو أن تعقل من اللفظ معنى ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى أخر " . وهكذا فرق عبد القاهر بين أصل المعنى أو الغرض العام ، وبين صورة المعنى التي يؤديها النظم باستخدام الأساليب البيانية المختلفة ، " فالمعاني الإضافية عنده هي أساس جمال الكلام ، و إليها ترجع الفضيلة و المزية . و هذه الفكرة لم يلتفت إليها أحد من نقاد العرب السابقين ، و قد تحدث عنها المعاصرون في الغرب و سموها أيضاً ( معنى المعنى ) " .